📁 آخر الأخبار

تحليل نصّ القصيدة الجديدة بين التجديد والتجدّد

 تحليل نصّ القصيدة الجديدة بين التجديد والتجدّد

رجاء عيد 

عمدت القصيدة العربيّة الحديثة، أو قصيدة "التفعيلة"، أو "الشعر الحرّ"...، انطلاقاً من بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي، إلى تكسير البنية التقليدية للشعر العربي بعد أن استنفذت في نظر الشعراء الرواد الأوائل مبرّرات الاستمرار في الوجود لأسباب وعوامل مختلفة يتفاعل ضمنها ما هو سياسي مترتّب على آثار الحرب العالمية الثانية، وحركات التحرر والاستقلال في الأقطار العربية، ونكبة فلسطين 1948... بما هو اجتماعي ناتج عن الاختلالات والاضطرابات في التركيبة الاجتماعية لبعض التشكيلات والفئات المحلية. بالإضافة إلى ظواهر مختلفة كالفقر والجهل والتخلّف...، وما هو ثقافي وفني بوجه عام؛ كقضايا الهوية الحضارية والثقافية الخاصة بالإنسان العربي، ومدى قدرته على الانفتاح والتفاعل والحوار مع مختلف القيم والنظريات والتصورات الإنسانية والفكرية والجمالية الوافدة عليه من الغرب، وغيرها من الانشغالات والهواجس الأدبية والفنية التي عني بها في معتركات الصراع الإيديولوجية، وضروب السجالات الثقافية. وإذا كان الشعراء هم أوّل من دشّن الخطوة نحو تكسير البنية الفنيّة للقصيدة العربية التقليدية، فهذا لا ينفي وجود حركة نقدية هامّة كانت تواكبهم وتدعَمُهم؛ هذه الحركة التي قادها مجموعة من الكتاب والنقاد، من بينهم الناقد رجاء عيد، وذلك من خلال هذا النصّ الذي يحمل عنوان "القصيدة الجديدة بين التجديد والتجدّد".

إنه بمجرّد قراءتنا لبداية النصّ، نستطيع أن نضع اليد على مؤشّر قوي دال على موضوعه؛ ذلك أن عبارة "كسر الشطرين" توجهنا بسهولة إلى افتراض بأنّ هذا الموضوع يتعلّق بتكسير البنية التقليدية في الشعر العربي الحديث.

إذن، ما هي القضية الأدبية المحورية التي يطرحها النصّ؟ وما هي أبرز العناصر الفرعية المكونة لها؟ وما هي مختلف مظاهر التجديد والتجدّد التي حفلت بها القصيدة العربية الجديدة؟ وما هي الطريقة المنهجية والوسائل الاستدلالية التي اعتمدها الكاتب في معالجة هذه القضية؟ وإلى أيّ حد استطاع أن يقدّم لنا تصوّراً نظريّاً واضحاً حول مظاهر تكسير البنية في الشعر العربي الحديث؟

 إذا كانت القضيّة الأدبيّة (المحوريّة) التي يطرحها الكاتب في هذا النصّ تتعلّق بإقدام القصيدة العربية "الحديثة"، في إطار سعيها الحثيث إلى التجديد والتجدّد، على تكسير البنية التقليدية للقصيدة "العمودية" (مع إعلان تحفظه على المصطلح)، فإنّ مجموع العناصر التي تتشكّل منها هذه القضية نفسها يتحدّد في المستويات التالية:
- جدة الشكل الجمالي في نظام القصيدة الشعرية العربية؛
- الإيقاع الشعري الجديد ومكوناته الصوتية المتفاعلة؛
- التركيب اللغوي الشعري في القصيدة العربية الجديدة؛
- الدلالة الشعرية وخصائصها الفنية المبتكرة في القصيدة الجديدة.
ومن ثمة يمكننا إجمالاً الوقوف عند مختلف مظاهر التجديد والتجدّد التي حفلت بها القصيدة العربية "الجديدة"، والتي استطاعت بفضلها أن تحقق فرادتها الجمالية والتعبيرية، وذلك لما عمد أصحابها من المبدعين والشعراء العرب المعاصرين إلى تكسير البنية التقليدية للقصيدة العمودية، والتمرّد على سلطة مقوماتها وشروطها الفنية الجاهزة والمتوارثة، وتنحصر أهمّ المظاهر التجديدية لهذه القصيدة -حسب تصوّر الكاتب - في المستويات والخصائص التالية:
- شكل أو نظام القصيدة: كسر الشطرين، والصياغة التشكيلية للقصيدة، ومستحدثات الشكل الجديد، وتقلّص المبنى...
- الإيقاع والموسيقى: تعويض الإيقاع الخارجي بنظيره الداخلي، والحرص على تجانس وتناسق الأصوات اللغوية وفقا لمبدأي التوالي والتبادل في القصيدة، وارتباط مختلف التبادلات الصوتية وتحولاتها المكانية بخصوصيات الحالة الشعرية واختلافاتها وتقلباتها، التدوير (العروضي) وعلاقة القصيدة المدورة بالدلالة والإيقاع الشعريين...
- التركيب اللغوي: تحرير المفردة اللغوية من إسار الجملة، أو تخطيها حدود العبارة في القصيدة...
- الدلالة الشعرية: الهوية التركيبية والمتداخلة للمعنى المتشكل في بنية القصيدة ذاتها (لا من خارجها)، والتفاعل والعضوية والوحدة، وكذلك تجاوز لغة القصيدة لأحادية (مدلول) المفردة، وصراعها (أي القصيدة) ضد كلّ تجذر للدلالات اللغوية...
- الصورة الشعرية: انفتاح الصورة في القصيدة الجديدة على مختلف الفنون: الصامتة والسمعية... واستجابتها في ذلك للمتطلبات الفنية للقصيدة ومتغيراتها الباطنية على نحو مركّب ومتناسق... 


استعان الكاتب لإبراز مظاهر التجديد في القصيدة الحديثة بمعجم نقدي يتوزّع بين أربعة حقول دلالية هي:
-حقل دالّ على الشكل أو البنية بشكل عام: (القصيدة الجديدة-العمودية-تحولات اللغة الشعرية-الصياغة التشكيلية-القالب التقليدي-المبنى-بنية الشكل اللغوي-النسق...)؛
- حقل دالّ على المستوى الصوتي: (كسر الشطرين-التفعيلة-تشكيلات الأداء-إيقاعية القصيدة-الشكل الإيقاعي-كسر الإيقاع-التجانس الصوتي...)؛
-حقل دال على المستوى الدلالي: (طبقة دلالية-غزارة الإيحاء-كثافة التعبير-معنى فوق المعنى-جدلية المعنى,,,)؛
-حقل دال على المستوى التركيبي: (توحد عضوي-الجملة-هوية تركيببية-شبكة متداخلة-علاقات لغوية...).
والعلاقات بين هذه الحقول الدلالية هي علاقات تداخل وتكامل، حيث لا يمكن –حسب الكاتب-الفصل بين المستويات الإيقاعية للقصيدة الجديدة، وبين مستوياتها الأخرى التركيبية والدلالية؛ على اعتبار أن كسر القصيدة الجديدة للشكل العمودي قد تمّ على صعيد كل المستويات السابقة. وإذا كان معجم الإيقاع هو المهيمن، فلأنّ ذلك يرجع إلى أنّ كسر الشكل الإيقاعي (البنية الإيقاعية) يعدّ أهمّ إنجاز حقّقته القصيدة الجديدة.

إنّ معالجة الكاتب للقضية المطروحة، وما يرتبط بها من عناصر جزئية، جعلته يتبع مساراً منهجيا وحجاجيا يقوم على تعدد الوسائل وتنوع الأساليب. فالبنسبة للمنهجية المعتمدة في بناء النصّ يمكننا القول إن الكاتب قد وظّف الطريقة الاستنباطية؛ بحيث انطلق من عرض تصوّره الشخصي في البداية مؤّكداً ما اعتبره تجديدا وتجدّداً "في القصيدة الجديدة"، ومفارقتها أو مغايرتها لسابقتها القصيدة "العمودية"، ليتحوّل إلى دراسة البنية اللغوية الشعرية للقصيدة الجديدة، وما تضمّه من مستويات وخصائص فنيّة مختلفة؛ كالإيقاع، والتركيب، والدلالة، والصورة,,,إلخ.
وإذا كانت لغة النصّ يطغى عليها طابع التقرير والمباشرة، فإنّ مردّ ذلك إلى أنّ غاية الكاتب هي توضيح الفكرة وترسيخها في ذهن المتلقي، وهي في ذلك لغة نقدية تحليلية يحرص صاحبها، استجابة منه لمتطلّبات القضية التي يعرضها النص أولا، وموقفه اص منها ثانيا، على المزاوجة بين مفاهيم "تراثية" (قديمة) يفرضها الحديث عن القصيدة العمودية، وأخرى حداثية (معاصرة) أشدّ هيمنة وأقوى حضوراً من سابقاتها استدعتها متابعة الكاتب لمظاهر التجديد والتجدد في القصيدة الجديدة.

من خلال الجمع بين البيانات النظرية المذكورة أعلاه ، من الواضح أن المؤلف يفضل الشعر "الجديد" ، وفي عملية الدفاع عن حقه في الوجود ، يميزه عن انتصار الجوانب الإيجابية المتعددة والمتنوعة ، ويميزه عن الشعر "الجديد". أغلال عمود الشعر القديم ، وكسر الهيكل التقليدي الذي ورثه في جميع مستويات الفن والتعبير والعضوية والتفاعل ، وما إلى ذلك ، لا يتعلق فقط بالشكل أو النظام الخارجي ، ولكن ما بعده ، الشعر الذي يحتوي على هذا "الجديد" قصيدة بنية اللغة ككل ؛ أي الموسيقى ، والإيقاع ، وبنية اللغة ، والشعر ، والصورة الفنية.

باختصار ، يقف المؤلف على جميع جوانب القصائد الجديدة ، ويتبع خطوات منهجية منطقية وواضحة ، ويتبنى مجموعة من الأساليب خطوة بخطوة ، خطوة بخطوة ، ويثير المشكلات ويعالجها ويحللها بنجاح ، ويحلل المشكلات بشكل شامل. إجراء التنسيق ، مع الأخذ في الاعتبار الطبقات المتعددة للبنية اللغوية العضوية والتفاعلية للقصيدة ، بالإضافة إلى المجموع الكلي لتتبع طابعها الفني والتعبري كزخرفة ، يتمرد ضد القيود والسلطة الصارمة للأعمدة القديمة من خلال كسر طوق البنية التقليدية للشعر العربي ، إلى طريق التحرير والتجديد.

رجاء عيد، القصيدة الجديدة بين التجديد والتجدّد، مجلة فصول، الجزء: 1، المجلد: 154- العدد: 2، صيف 1996- ص: 172/175 (بتصرّف).

aba
aba
تعليقات